من هذا المنطلق ـ وكما يقول أركون ـ نجد كثيراً ما يوجه أهل الاختصاص ـ في أي علم كان ـ احتجاجات علمية وفنية على مَن يخوض في حقولهم الاختصاصية، من دون أن يتزود بالكم الكافي من خواص تلك الاختصاصات، أي من دون أن يطلع على العلم من داخله، فنجد مثلاً كيف يعمد ابن رشد على رد إشكالات الغزالي الفلسفية، فقد كانت عمدة الردود التي توسل بها ابن رشد ادعاء أن الغزالي لم يقرأ الفلسفة كما ينبغي لأي فيلسوف، وإنما قرأها قراءة سطحية، ومن خلال ألسن خارجية ...
فقد ادعى ابن رشد على الغزالي أنه لم يقرأ الفلسفة الأرسطية ـ التي ينقدها ـ بصورة صحيحة فهو قرأ أرسطو عبر واسطة خارجية وهو ابن سينا، ولم يقرأ أرسطو نفسه، ولهذا أساء الفهم وضل الطريق ... فابن رشد بعد أن أشكل على الغزالي من جهة أنه لم يهضم الفلسفة حقيقة، قال: ((وسبب ذلك أنه لم ينظر الرجل ـ يعني الغزالي ـ إلا في كتب ابن سينا، فلحقه القصور في الحكم من هذه الجهة)).
وهذا هو أيضاً من قرأ الاسلام بواسطة العقلية الاستشراقية، فالمستشرق ـ حتى وإن كان منصفاً وباحثاً مجرداً ـ فإنه يبقى عقلية خارجية، من المتعذر عليه الإدراك التام لجوهر الاسلام والرسالة الاسلامية، ولهذا لا يمكن أن يعرض الاسلام بتاريخه وقوانينه وأحكامه عرضاً صحيحاً، وإنما لابد أن يشوب بعض نظراته شيء من التشويه والاضطراب ... ومَن يأخذ الاسلام من لسان المستشرق لا يمكن أن يأخذه غضاً ...
وقد كان هذا التقرير من المآخذ الأساسية التي أخذت على (طه حسين) في كتابه (في الشعر الجاهلي) حيث ادعى الكثير من النقاد المعاصرين لطه حسين بأنه أساء للتراث الأدبي العربي بدعوى ((أنه قرأ الأدب العربي وهو في فرنسا من خلال قلم المستشرق (مرجليوث) الذي نفى وجود أي أثر للشعر العربي في العصر الجاهلي في كتابه (في الأدب العربي) ... ونسبوا إليه ـ طه حسين ـ إنه بعد أن قرأ كتاب (في الأدب العربي) تأثر بما فيه وبمجرد أن عاد إلى مصر شرع في تأليف كتابه وكرر ما أتى به مرجليوث)).
إن وقوع الكثير من الباحثين والنقاد في الاشتباه والخطأ، أحد أسبابه الأساسية عدم القراءة الصحيحة للعلم المبحوث، حيث يقرأ خارجاً، في حين القراءة الصحيحة لابد أن تكون من داخل العلم نفسه ... بذلك فإن مَن يريد تحصيل العلم ينبغي له مراعاة هذه المقدمة بدقة والتأكد من توفرها في مسيرته التحصيلية.
المقدمة الثالثة: الالتصاق بأهل الخبرة
إن كل علم له روحه الخاصة به، وهذه الروح لا يكشف حقيقتها إلا الخبير المختص بالعلم نفسه ... فهو من خلال قربه من العلم وكثرة استخدامه لأدواته والطول الزمني في التعاطي معه، تنكشف له ألغاز ذلك الحقل من العلم، وتتضح له دقائقه ... وهذا أمر واضح لكل متابع للحركة العلمية، حيث إنه يجد فارقاً واضحاً بين السياسي المتمرس، وبين المراقب السطحي ... وكذلك بين الفيلسوف وغيره ... وهكذا.
لهذا لو يتدخل غير المختص ويسعى للتنظير في خصوص مادة علمية لا اختصاص له فيها، مستعيناً فقط بمتابعاته العامة، فإنه بلا شك لن يوفق لإحراز نتائج علمية ذات قيمة، وإن تصور أنه قدم إبداعاً ... ولعل من يصح الإشكال عليهم في هذا المجال، الكاتب المشهور الدكتور محمد عابد الجابري، فهو إذا كتب في اختصاصه ـ الفلسفة ـ يقدم نتائج علمية تستحق التقدير ـ وإن خالفته فيها، لكنه إذا تدخل في غير اختصاصه منظراً، لا يسعك إلا التعجب من منهجيته واستنتاجاته، كما فعل حين سعى لمناقشة بعض مواد علم الأصول في كتابه (بنية العقل العربي) ... فكل مَن يقرأ له تلك المناقشة يشعر مباشرة بأن الكاتب غير مختص، لبساطة الطرح والإشكال والإجابة والمناقشة، وإن كان الأسلوب الكتابي يعد من النوع الممتاز.
فمجالات الضعف عند غير المختص والتي لا تتضح إلا للمختص ـ إذا عمد إلى مراقبة كتابات غيره ـ تتركز في عدم تسلطه التام على روح العلم وعدم معرفته لاستخدام أدواته بشكل صحيح.
ويمكن التمثيل على ذلك بنقد ممتاز قدّمه الدكتور أسامة خليل المتخصص في الشأن الفلسفي ورئيس تحرير مجلة (أصول الفكر والعمل)، على كتاب (العالمية الاسلامية الثانية) لمحمد أبوالقاسم حاج حمد ... فقد أشكل على المؤلف من جهة عدم دقته في استخدام المفاهيم الفلسفية ـ وهذا نوع من إشكال الخبير على غيره، وذلك في قوله: ((أما فيما يتعلق بالخصائص الفكرية للحضارة الغربية، فنحن نستميحه عذراً، وذلك أن استخدامه للمفاهيم الفلسفية يحتاج إلى كثير من التدقيق والتحديد، إذ يجدر بنا الفهم أمام كثير من التركيبات التي قد يفهمها غير المتخصص لكن لا يجوز استعمالها على مستوى النقد والتحليل الفلسفي. فلا يجوز مثلاً الجمع بين (المادي والمجرد) فلسفياً وإن كان المقصود واضحاً لا غموض فيه حين يتحدث عن ((التحول بالكون من معناه الانساني إلى معناه المادي المجرد)). هذا هو الحال أيضاً حين يقارن فهمه وعلمه بفهم السلف ويستخدم تعبير (العقل المحض) وهو تعبير كانطي بحت! ((فهم قد أنتجوا بقوة العقل المحض ونحن ننتج بقوة العقل زائداً محددات العلم النظرية والمعرفية)).
إن هذا الغموض ـ والذي قد يثبظ همة القارئ المتخصص ـ ربما يكون من أسبابه ذلك التداخل بين مستويات التحليل العلمي والنظري والتحليل الحضاري والسياسي ... )).
فلأن كل علم له أدواته الخاصة، وبالتالي روحه الخاصة التي تشكل قوته الحقيقية والحل لكل ألغازه، فلابد للمحصل أن يستخبر عن تلك الروح من أصحابها وهم أهل الخبرة ... فيتعلم منهم الأدوات وكيفية استخدامها ونوعية الاستثناءات الداخلة والخارجة ... أي يتعلم منهم العلم وتطبيق العلم ... كما يحصل تماماً في المنهج العلمي المتبع في الحوزات العلمية الشيعية المصطلح عليه (البحث الخارج) حيث يقوم المباحث ـ الأستاذ ـ بعرض النظرية المتبناة من قبله، وكيفية التوصل إليها، مع مناقشة لسائر الآراء والنظريات المعاكسة، وأما المباحث ـ الطالب ـ فإنه لا يكتفي بالاستماع وإنما يسعى لافتعال الإشكالات على أستاذه لمعرفة جهة الصح من الخطأ فيها ...
بناء على ذلك فإنه يُعد من أولى أهداف هذا المنهج (تدريب الطالب عملياً على كيفية استخدام أدوات العلم. فمع أن كل المواد التي تطرح في هذا الدرس لا شك أنها مرت على الطالب أثناء تحصيله، إلا أن مرورها لا يعدو كونه نظرياً، لهذا فهو يحتاج إلى تعلم كيفية الممارسة العملية، يتعلم من أستاذه من خلال استماعه له ومن خلال مناقشته ونقده له، كيف ومتى يورد الأداة العلمية الشرعية أو العقلية أو العرفية وأيهما الأخرى...).
هكذا يكون دور الخبير ... فلأنه العارف الدقيق بأصول العلم المختص به، والمكتشف لروحه من خلال تمرسه الطويل، وأيضاً الفاهم لنوعية الاستثناءات التي يمكن دخولها أو خروجها أثناء التطبيق ... فلأنه كذلك فهو الأقدر على كشف ألغاز علمه إلى غيره ...
ولهذا فقد نصح بعض العلماء المختصين بضرورة اعتماد الخبير في التحصيل العلمي، كما ظهر ذلك في كتاب (نصيحة إلى عالم شاب) لميداور، حيث نصح الشبان ((بأن يختاروا مسألة مهمة وأن يتعلموا مهنة البحث على يد عالم ناضج)).
إن الخبير يقدم للمحصل روح العلم، أما غيره فلا يقدم سوى معلومات عامة قد لا تكون ذات معنى بالنسبة للمختص ... وهذا هو السر في إكثار غير المختص من الإشكالات، كما هو ملاحظ في العديد من الأوساط الثقافية ...
فغير المختص عادة ما يكون مكثراً من الانتقادات، التي قد تصل في بعض الأحيان إلى نسف العلم كله، وما السبب في ذلك إلا لأن معرفته بأصول ما لا اختصاص له فيه زهيدة جداً ... بعكس الخبير المختص، فإنه لا يولي أهمية لمثل تلك الانتقادات لأنها محلولة مسبقاً في ذهنه، وهو أعرف بجمعها وما إذا كانت فعلاً إشكالات حقيقية أو مجرد توهمات نقدية مجاب عنها في داخل العلم.
المقدمة الرابعة: التفرغ الزمني
إن أبواب العلم ـ أي علم ـ واسعة جداً ولا سيما العلم الدينين فهو ذو تعريفات كثيرة بالذات في الإطار الفقهي، حيث تتزاحم مسائله لدرجة يصعب حتى على الفقيه المتمرس استحضار جميع المسائل في آن ... لهذا يرى البعض أنه ((من النادر جداً وجود فقيه مجتهد بالفعل في جميع مسائل الفقه، نعم الفقيه هو مَن يملك قوة استنباط قريبة من الفعلية، بحيث لو اعترضته مسألة ما لا يصعب عليه إخراجها ... ومن ذاك ما شاهدناه فعلاً عند بعض الفقهاء الذين بلغوا من العمر ثمانين سنة وهم ملاصقون للعمل الفقهي، ومع ذلك نجدهم يتوقفون عند بعض المسائل أو يقولون لا نعلم)).
فأبواب هذه العلوم واسعة جداً، ومع ذلك لا يمكن التجزؤ فيها، إذ الحسم في أي مفردة منها مهما صغرت يفتقر إلى معرفة شاملة بكل تلك الأبواب، ولهذا اشتهر فتوائياً القول باشتراط الاطلاق في المجتهد وعدم كفاية الاجتهاد التجزئي ـ وإن كان جمع من الفقهاء أشكلوا على هذا الاشتراط صناعةً في مقام الاستدلال.
والمقصود منن الاطلاق والتجزؤ، هو أن المجتهد المطلق مَن كان له ملكة مطلقة سيالة في جميع أبواب الفقه بحيث يتمكن من استنباط أي حكم في أي باب من الفقه من مداركها، وليس المقصود بالمجتهد المطلق مَن كان مستحضراً لجميع المسائل الشرعية كلها حتى يستشكل بعدم إمكان ذلك لغير المعصوم (ع) فضلاً عن وقوعه)).
أما الاجتهاد التجزئي فهو ((عبارة عن تمكن الانسان من استنباط بعض الأحكام دون بعض، مثلاً أن أبواب الفقه مختلفة مدركاً، والمدارك مختلفة سهولة وصعوبة، فرب شخص ضالع في النقليات دون العقليات وكذلك العكس، وهذا يمكن له الاستنباط في بعضها دون بعض)).
فالعلم الذي له أبواب ومفردات بهذه السعة، ويُشكَل فيه الاكتفاء بالأبعاض، لا شك أنه يحتاج إلى زمن طويل وتفرغ من المحصل مع الجد والاجتهاد، لعله يتمكن من إبداء الرأي فيه ... أما الاكتفاء ببعض التقطيعات الزمنية والالتهاء ببعض الكتابات السريعة، فإنه لا يمكن المحصل من السيطرة على العلم ... ويمكن الادعاء هنا أن جزءاً لا يستهان به من المشاكل العلمية المنتشرة، مردّه إلى هذا الأمر، حيث التسرع في الاستنتاج وعدم إيلاء التحصيل الزمن الكافي الذي يتطلبه.
هنا أربع مقدمات ينبغي مراعاتها بجد، عند كل راغب للتحصيل العلمي، أنّى كان نوع العلم، وعلم الدين على رأس القائمة ... وهكذا يفترض أن (نتعلم العلم )
منقـــــــــــــــــــول للفــــــــــــــــــــائــــدة