بسم الله الرحمان الرحيم
قبل أن نجيب على هذا التساؤل ينبغي أن نعرف محيطه، من خلال تعريف العلوم المقصودة في هذا السؤال، وذلك أن لكل علم بعض ما يتميز به في طرق التحصيل والاستقبال، وإن كانت سائر العلوم تلتقي مع بعضها في دوائر كثيرة، ولهذا فإن الإجابة التي ستعرض قد تكون بنسبة ما منطبقة على كل علم، وإن كنت قاصداً منها نوعية خاصة من بين تلك العلوم.
يمكن النظر إلى العلوم من زاويتين تناسباً مع طبيعة العلوم نفسها: الزاوية الأولى العلوم المعلوماتية، وهي تراكم من الحقول العلمية التي ليس لها آثار دينية أو اجتماعية مباشرة، كعلم اللغة العربية والرياضيات والفيزياء وكثير أشباهها.
والزاوية الثانية العلوم الدينية، وهي كل ما له أثر ديني ودنيوي وأخروي ـ أو اجتماعي من تلك العلوم ـ وبذلك تكون دائرة هذه العلوم مستوعبة للعلوم الدينية البحتة، وأيضاً كل ما له أثر ديني أو اجتماعي في سائر العلوم الأخرى، كالشق الذي يتصل بمباحث الربا وتوزيع الثروة والعدالة الاجتماعية في علم الاقتصاد، أو الشق الذي يتعلق بالمحافظة على الحياة الانسانية والنظام في علم الأحياء ـ البيولوجيا ـ أو البعد الذي له علاقة بالسيطرة والحكم والإدارة في علم السياسة وما أشبه ... فكل هذه الشقوق والأبعاد ذات صلة بالدين والمجتمع ولها آثار مباشرة عليهما.
وما يتعلق بالسؤال المطروح ما جاء في الزاوية الثانية، وإن كانت الإجابة عليه لها نوع شمول لما ورد في الزاوية الأولى أيضاً.
إذاً العلوم كثيرة، ولا شك أنها بأجمعها تقع في طريق النهضة الاجتماعية، ولهذا فإننا حين ننادي بالمشروع الديني المتمثل في هذه القيمة العقلية الأول (حب العلم)، فإننا نعني بالعلم سائر العلوم المعلوماتية والدينية، فالمجتمع الناهض هو المجتمع الذي تتفجر في وسطه سائر العلوم. لكن لأن العلوم المعلوماتية خارجة عن تخصص المؤلف، كان من اللازم التركز على العلوم الدينية، خاصة لما فيها من الشمول والاستيعاب، إذ إن كل إنسان ملزم ولو بصورة نسبية بالإحاطة بها، لأنها وسائط لامتثال تعاليم الدين .. بعكس العلوم المعلوماتية فهي خالية من الإلزام الفعلي للانسان، لأنها تختص بصاحبها المتخصص فيها فقط.
بناءً على ذلك ما هي العلوم الدينية التي ينبغي على كل انسان تعلمها إما كلياً ـ على نحو التخصص ـ أو نسبياً ـ في حدود الضرورة؟
يمكن تفصيل هذه العلوم كما يتضح لنا من خلال الاستقراء للحاجة الدينية، في أربعة فصول أساسية:
الفصل الأول ـ الأسس العقيدية: والتي يمكن الاصطلاح عليها (ضروريات الدين)، فيها يحصل التمايز التام بين المعتقد المسلم وبين المنكر الكافر ...
فهذه الأسس والضروريات ينبغي لكل مسلم التعرف عليها والاعتراف بها على نحو التفصيل لا الإجمال ـ أي على نحو القطع التفصيلي وليس الإجمالي، وإن كان للبعض رأي مغاير في هذا الصد، فقد ذهب الأخوند الخراساني إلى كفاية الإجمالي عند تعذر التفصيلي في مجال الأصول والمعتقدات وليس الفروع، وذلك في سياق رفضه لكفاية الظن فيها ـ الأصول. قال في لواحق بحثه لدليل الانسداد: ((إن الأمر الاعتقادي وإن انسد باب القطع به إلا أن باب الاعتقاد إجمالاً ـ بما هو واقعه ـ والانقياد له وتحمله غير من ... وبالجملة لا موجب مع انسداد بابا لعلم في الاعتقاديات لترتيب الأعمال الجوانحية على الظن فيها مع امكان ترتيبها على ما هو الواقع فيها فلا يتحمل إلا لما هو الواقع ولا ينقاد إلا لا لما هو مظنونه...)).
وعلى كل فسواء وجبت على نحو التفصيل مطلقاً ـ في حال الامكان والتعذر معاً، أم على نحو الإجمال أيضاً ـ في حال التعذر، فإنه يجب تعلمها إما كلياً ـ للتخصص ـ أو نسبياً لغيره.
ويقف على رأس هذه العلوم، التوحيد وتجلياته وما يحمل معه من أسماء الله وصفاته، وقضية الرسل والرسالات خاصة ما يتصل بالرسالة الختمية، وكذلك الامتداد الطبيعي لهذه الرسالة المتمثل في مشروع الإمامة لكونها منصباً إلهياً وليست حكماً فرعياً ... وبالتالي كل ما يتصل بهذه المسائل من موضوعات.
ويمكن ملاحظة هذا الفصل في قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) الأنبياء/ 25.
(والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون) البقرة/ 4.
(فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا...) التغابن/ 8.
ولعل الحقل العلمي المتكفل ببحث دقائق هذه المسائل هو علم الكلام، وإن كان لغيره ثمة صلة به.
الفصل الثاني: النظريات الكبرى والمفاهيم التفصيلية للدين
وهي عبارة عن تراكم كبير من السنن الإلهية والأنظمة الربانية المتحكمة في مسيرة الحياة عبر التاريخ، التي لا يطرأ عليها التبدل والتحول ... ثم القيم والحكم ـ أو الكلمات كما هو استنتاج السيد محمد تقي المدرسي الأكثر تفصيلاً، والتي ما هي إلا إشعاعات للسنن الإلهية وتجلياتها التفصيلية في مختلف مرافق الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ... وهكذا تليها المجاميع الهائلة من الوصايا والإرشادات الدينية التي تمتلئ بها صفحات القرآن العظيم، الملحوظة في توصيات الخالق جل وعلا إلى أنبيائه، أو في إرشادات الأنبياء والحكماء إلى مجتمعاتهم.
ويمكن رؤية هذا الفصل في عدة آيات قرآنية، منها قوله تعالى:
السنن: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) آل عمران/ 137.
القيم: (فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته...) الأعراف/ 158، (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته...) الأنعام/ 115.
الوصايا: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه...) الشورى/ 13.
(ولا تصعّر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً...) لقمان/ 18.
ومن المفترض أن يكون الحقل العلمي المناقش لجميع هذه النظريات والمفاهيم، علم القرآن الكريم ـ لا بالمعنى الأخص المنحصر في مفردات كالناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه وغيرها، وإنما بالمعنى الأعم بالشكل الذي يشمل التفسير والتدبر المنطقي والموضوعي، وغير ذلك.
الفصل الثالث: التشريعات في مجالي العبادات والمعاملات:
وهي تنحل في هيئة أحكام تكليفية ـ إلزامية وترخيصية ـ ووضعية.
وتلحظ مثل هذه الأمور في العرض القرآني، في مثل قوله تعالى: (... وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون) البقرة/ 233.
(يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر...) لقمان/ 17.
(ون أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم...) المائدة/ 49.
ويمكن الوقوف على جميع هذه المفردات التشريعية، في خصوص علم الفقه، فهو المتكفل باستيعابها جميعاً.
الفصل الرابع: مناهج النظر والتفكير
وهي عبارة عن السبل والطرق التي تهدي العقل في سعيه نحو الحقائق والأفكار ... وذلك أن الدين حين شرّع لنا أحكاماً من جهة، وأمرنا بالتعقل والتفكير من جهة أخرى، فإنه وضع لنا طرقاً من شأنها قيادة العقل إلى تلك الأحكام، وصيانته من الزلل، وتلك الطرق من قبيل الاستناد إلى اليقين، وعدم إغفال الغيب ... الخ.
وقد عبّرت الآيات القرآنية عن هذه الطرق تارة بالمنهج وتارة بالسبل، كما في قوله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) المائدة/ 48.
(وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فنفرق بكم عن سبيله) الأنعام/ 153.
وهذه المناهج والسبل يهتم بمناقشتها علماء الأصول والفلسفة.
هذه الفصول العلمية الأربعة من أهم ما يحتاجه الانسان من زاد علمي في حياته الدينية ... ولكن كيف؟
أما الفصل الأول فالحاجة إليه ذاتية، أي إن التعرف عليه والاعتراف به مطلوب لذاته (لنفسه)، فالواجب بذلك يكون نفسياً لا غيرياً، والوجه في نفسيته هو لكون الله سبحانه وتعالى ـ مثلاً ـ (مستجمعاً لجميع صفات الكمال فيستحق أن يُعرف) ... مع ملاحظة أن هناك مَن أشار إلى غيريته، حين بنى على أن المعرفة واجبة لشكر المنعم أو للأمن من الضرر.
وأما الفصل الثاني فلأن الكثير من المواقف الدينية في الحياة تبتني على المعرفة السليمة بطبيعة حركة الحياة، وعلى فهم رؤى الدين العامة المتجسدة في القيم والوصايا، وليس الخاصة فحسب كالأحكام.
وأما الفصل الثالث فإن معرفة ما فيه من علوم (التشريعات) هو الطريق الوحيد للتعبد الصحيح والامتثال المطلوب، فمن دون معرفة الأحكام لا يمكن امتثال أوامر الدين كما أريدت ... ومن هذا المنطلق اشتهر على ألسن الفقهاء أن العبادات توقيفية، أي لا يجزي بل لا يجوز الإتيان بها إلا بالصورة التي رسمها الشارع المقدس فقط، ولا يمكن التصرف فيها بحال ... وذلك من قبيل قول رسول الله (ص): ((صلوا كما رأيتموني أصلي))، ((خذوا عني مناسككم)).
ولا يتصور هنا أن الأمر مقتصر على العبادات فقط دون المعاملات، لا بل هو يشمل الأخيرة أيضاً ... لكن غاية ما يقال هنا أن العبادات أحكامها من نوع (المحدثة) من قبل الشارع فلا يمكن التصرف فيها، وأما المعاملات فأحكامها من نوع (المقرَّة)، على اعتبار أن المعاملات حياة قائمة لكن الشارع جاء وشذّ بها فأقر بعضها كبيع المعاطاة، وردع عن بعضها الآخر كالربا ... فالمعاملات نعم هي حياة، إلا أنها تستبطن أحكاماً كثيرة بعضها جاء على سبيل الإقرار والبعض الآخر على سبيل الردع، مع ملاحظة أن الإقرار ليس من الضرورة أن يكون فعلياً، وإنما يكتفي فيه بعدم الردع ... وقد اشتهر هذا الأخير على ألسن الفقهاء قديماً وحديثاً، فمثلاً في تقريرهم لحجية الخبر الواحد يستدلون بقيام السيرة العقلائية على العمل به، ثم يؤكدون على ثبوتها حتى على فرض عدم وجود نص واضح يقرها، بعدم صدور ردع واضح عنها من قبل الشارع.
فكما أن العبادات عبارة عن تشريعات توقيفية، كذلك المعاملات تستبطن تشريعات بنوعيها الإلزامية والترخيصية ... ولهذا ورد في الحديث: ((التاجر فاجر حتى يتفقه في الدين)).
وأما الفصل الرابع فلتعذر الوصول إلى الحقائق والأفكار من دونها، ولهذا ورد النهي من الشارع عن اتباع المناهج غير الدينية، كما مر في قوله تعالى: (ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله).
بهذا نكون قد حددنا ماهية العلم المقصود في السؤال السابق ... ولكن تبقى الإجابة على السؤال شاغرة ... وهو كيف نحصل على العلم في تلك الفصول الأربعة، أو كيف نتعلمها؟
في الحقيقة هناك خلفيات مهمة وراء طرح هذا التساؤل ... بمعنى أن هذا التساؤل لم يأت من فراغ، وإنما له محفزاته الخاصة.
تتلخص هذه المحفزات، في كثرة حدوث الاشتباه بين العلم واللاعلم عند المحصل، إذ ليس كل ما في الساحة من أفكار وإثارات يعد علماً، فبعضه علم وبعضه الآخر لا علم ... ما يعني أن المحصل للعلم لابد أن يعرف كيف يميز بينها حتى لا يتحول عقله على جامع للتناقضات.
ويضاف إلى ذلك إشكالية أخرى لا تقل أهمية عن هذه، تتعلق بكيفية تراكم العلم عند الانسان المحصل، فهناك من المحصلين للعلم مَن يعتمد المتابعة الشخصية المجردة المصطلح عليها (التثقيف الذاتي)، باعتقاد أن هذه الطريقة كفيلة بإعطاء الانسان كل ما يحتاج من معارف وعلوم ... وهناك مَن يعتمد على مجرد المحاكاة اليومية خصوصاً إذا كان يعيش في وسط علمي، فيعتمد على النقولات والمسموعات والأفكار السريعة، بزعم أنها، بمجموعها تشكل علماً ... وهكذا.
وفي تصوري أن المحصل ينبغي أن ينتبه لمثل هذه المسائل، ولا يعتمد أي طريقة في تحصيل العلم ـ الديني على وجه الخصوص ـ لأن العبرة بالنتائج والمؤديات، فإذا لم يدقق المحصل في أخذ العلم، فإنه معرّض للوقوع في مشاكل علمية قد تكون خطيرة جداً في المستقبل، وعندها يصعب عليه إذا تراكمت لديه المعارف التدقيق والمراجعة خاصة أنه جبل على اعتماد طريقة معينة، واقتنع مسبقاً بأفكار كثيرة شكلت بأجمعها أساساً لتلك المخاطر ... وليس من السهولة إحصاء كل الأفكار الواصلة إلى ذهن الانسان ومراجعتها بعد عمر من وصولها ...
لهذا لابد من التدقيق من الوهلة الأولى في طرق تحصيل المعارف والعلوم، فما هي المقدمات الأساسية الواجب مراعاتها في مسيرة التحصيل العلمي ضمن البعد المشار إليه ... وهو نفس سؤالنا السابق (كيف نتعلم العلم؟).
إن تعلم العلم يفتقر إلى مقدمات وشروط كثيرة، لن نتعرض لها جميعاً، لأن الكثير منها وإن كان مهماً لا يصح التغافل عنه، إلا أنه يرتبط بالهدف الذي عقدت له هذه الدراسة ... ومعنى ذلك أنني سأكتفي باستعراض المقدمات التي لها تماس جوهري بهذه الدراسة، وهي تتأكد في أربع مقدمات.
المقدمة الأولى: معرفة مميزات العلم
فالعلم ليس كل ما يسمعه الانسان من تصورات وأفكار، والعالم ليس هو المحتضن لتلك التصورات، ولو كان العلم كذلك لما وصف القرآن الكريم الكثير من الناس بالجهلة، مع أن فيهم مَن يُنظر إليه بصفته عالماً ... كما قال تعالى: (قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون) يوسف/ 89.
مع أن أخوة يوسف (ع) ما كانوا جاهلين بمعنى نقص المعلومات، بل إن بعضهم كان على درجة من العلم ككبيرهم ـ كما يظهر من العديد من الروايات المفسرة للآيات من سورة يوسف ـ ولكن جهلهم يشير إلى نقص علمي آخر.
ويقول تعالى: (أأنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أتنم قوم تجهلون) النمل/ 55.
فقد وصفتهم الآية بالجهل بأجمعهم ولن تستثن منهم أحداً، مع أن قوم لوط لم يكونوا جميعاً أميين وإنما كان فيهم مَن يمكن اضافة العلم له.
.