[الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، كثير الخيرات ، وعظيم البركات ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله نبي الهدى والرحمات ، عليه من ربه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات ، وعلى آله وأصحابه أهل التقى والكرامات ، ومن تبعه بإحسان إلى يوم العرصات . . . أما بعد :
لقد بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ، فأبطل الله به مسالك الجاهلية ، وقضى به على معالم الوثنية ، فاستأصل شأفتها ، واجتث جرثومتها ، وفي طليعة ذلك الكبيرة العظيمة ، والجريمة الشنيعة ، والمعصية المتوعد عليها بالحرب من الله ورسوله ، ألا وهي جريمة ( الربا ) ، فهيهات أن تُعمر الحياة وتشاد الحضارات وأناس يتعاطون الربا ، ولا يرعون للإنسان كرامة ، ولا للعقول حصانة ، ولا للدين صيانة .
فلما جاء الإسلام بعقيدة التوحيد الخالصة لله ، وأشرقت أنوارها في جميع أصقاع المعمورة ، حررت القلوب من رق العبودية لغير الله ، ورفعت النفوس إلى قمم العز والشموخ ، وسمت بالعقول عن بؤر المال وحبه ، وعلت بالقلوب عن مستنقعات المال الحرام . كيف لا وعقيدة المسلم أعز شيء عنده ، وأغلى شيء لديه ، بها يواجه أعتى التحديات ، وبها يصبر على الابتلاءات ، وبها يترك الإغراءات ، ويقاوم موجات القلق والأرق ، والاكتئاب النفسي والاضطرابات ، وبها يقيم سداً منيعاً ، ودرعاً متيناً أما زحف المال الحرام ، والغزو الفكري والعقدي ، ويحذر من بضاعة اليهود الحاقدين ، أكلة الربا المغرضين ، من هنا كانت أنبل معارك العقيدة ، تحرير العقول الإنسانية من كل ما يصادم الفطر ، ويصادر الفكر ، ويغتال المبادئ والقيم .
لقد حد الله سبحانه وتعالى لعباده حدوداً من تعداها وتخطاها إلى غيرها وقع في الحرام وأدى بنفسه للهلاك والدمار ، وعرض نفسه للعذاب والعقاب ، ففي تعدي حدود الله ظلم للنفس البشرية ، ومعصية لرب البرية ، وهذا من أشد أنواع الظلم ، ظلم الإنسان لنفسه ، إذ كيف بإنسان وهبه الله عقلاً وحكمة وعلماً وخط له خطوطاً ، وأرسل له رسلاً ، وأنزل له كتباً ، فتبين له الحق من الباطل ، ثم يصر على المعصية وفعل الذنب ، واقتراف الصغيرة والكبيرة ، فمن تعدى حدود الله ، وانتهك محارمه غير مراع لأمر ولا نهي ، فقد أعد الله له من العقوبة جزاءً وفاقاً و { إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون } ، ولقد جاء الكتاب العزيز ، مرغباً في الخير ، ومرهباً من الشر ، آمراً بالمعروف ، وناهياً عن المنكر ، فيه وعد ووعيد ، وتخويف وتهديد ، فيه الأوامر والنواهي ، فنأى بأتباعه عن أوهام الجاهلية ، وطهر نفوسهم من رجز الوثنية ، وابتعد بهم عن براثن الإسفاف ، وبؤر الاستخفاف في كل صوره وأنماطه ، ويأتي في طليعة ذلك ( جريمة الربا ) لما يمثله من طعنة نافذة في صميم العقيدة ، وشرخ خطير في صرح التوحيد ، وتمزق مزر يضعف القوة ، ويذهب العزة ، ويجلب الانتكاسة ، وسوء الخاتمة ، ويلحق الهزائم ، ويقضي على العزائم ، فتقع الاضطرابات في المجتمع ، وتحصل الفوضى في الأمة ، فتغرق سفينتها في مهاوي العدم والردى ، ولذا فقد نهى الشارع الكريم عن ( الربا ) في محكم التنزيل ، وحذر من عاقبته السيئة ونهايته المؤلمة فقال الله تعالى : { وأحل الله البيع وحرم الربا } ، فالربا حرام كله ، كثيره وقليله ، بجميع أشكاله وأنواعه ، وصوره ومسمياته ، ولم يأذن الله في كتابه العزيز بحرب أحد إلا أهل الربا ، فالناظر على مستوى الأفراد والدول يجد مدى الخراب والدمار الذي خلفه التعامل بالربا من الإفلاس والكساد والركود ، والعجز عن تسديد الديون ، وشلل في الاقتصاد ، وارتفاع مستوى البطالة ، وانهيار الكثير من الشركات والمؤسسات ، وجعل الأموال الطائلة تتركز في أيدي قلة من الناس ، فأصبح ناتج الكدح اليومي يصب في خانة تسديد الربا ، ولعل هذا شيء من صور الحرب التي توعد الله بها المتعاملين بالربا فقال جل وعلا : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } إنها بضاعة مزجاة ، وتجارة كاسدة ، وحرب خاسرة مع الله تعالى ، حرب لا تجدي فيها السفن ولا الطائرات ، ولا تنفع فيها القنابل ولا الدبابات ، فهي مع خالق الأرض والسموات ، الذي يقول للشيء كن فيكون ، فكيف يخوض عبد ضعيف لا حول له ولا قوة حرباً ضروساً مع من له جنود السموات والأرض ، وله جنود لا يعلمها إلا هو ، إنها حرب غير متكافئة من أقدم عليها من البشر فقد أهلك نفسه وأذاقها ألم العذاب ومرارة العقاب ، وضنك العيش في الدنيا والآخرة
فكم نرى ونسمع عن أهل الربا وآكليه والمتعاملين به وما حل بهم من جنود الله عز وجل فالسرطان وأمراض الشرايين والذبحة الصدرية وموت الفجأة من جنود الله { وما يعلم جنود ربك إلا هو } ، وقال تعالى { ولله جنود السموات والأرض وكان الله عليماً حكيماً } ، واستمعوا لعظمة جندي من جنود الله تعالى ، أخبر عنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فقال : [ أُذن لي أن أُحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش ، ما بين شحمة أُذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة ] ( رواه أبو داود وغيره وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة ) ، سبحان الله العظيم ، إذا كان هذا ملك من ملائكة الرحمن عز وجل ، وخلق من خلقه ، وعبد من عباده ، فكيف بالخالق تعالى وتقدس ، يقول الله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } ، ويقول تعالى : { فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب والترائب } ويوم القيامة يقال لآكل الربا خذ سلاحك واستعد للحرب مع الله ، استعد لخوض غمار الحرب مع من بيده ملكوت كل شيء ، مع من له جنود السموات والأرض ، وما يفعل ذلك الإنسان صاحب اللحم والعظم في مثل ذلك الموقف الرهيب العصيب ولكن { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } فلا حول ولا قوة إلا بالله العظيم .
معاشر المسلمين : لقد شبه الله عز وجل آكل الربا بالمجنون والمصروع عندما يخرج من قبره إلى محشره فهو يتخبط في الأرض لا يدري ما الخطب ولا يعلم ما الأمر كما كان يتخبط في مال الله بغير حق ( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) فأكلة الربا يقومون ويسقطون كما يقوم المصروع لأنهم أكلوا الأموال رباً وحراماً في الدنيا ، فانتفخت به بطونهم حتى أثقلتهم عن الخروج من قبورهم يوم القيامة فكلما أرادوا النهوض سقطوا ، يريدون الإسراع مع الناس فلا يستطيعون . قال صلى الله عليه وسلم : [ إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة ] ( رواه البخاري ) ، ولكن وللأسف : ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : [ كل جسد نبت من السحت فالنار أولى به ] ( رواه البخاري ) فالمال الحرام سبب لدخول النيران ، والبعد عن الجنان ، فقد جاء في الحديث عند الترمذي [ لا يدخل الجنة جسد غذي بالحرام ] ، فأكل المال الحرام من رباً وغيره من أعظم موانع الدعاء ، ألا ترى آكل الربا يدعو ليلاً ونهاراً فلا يستجاب له ، تتراكم عليه المصائب والمحن ، فلا يستجاب له ، إنه مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم : [ إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء ، يارب يارب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب له ] ( رواه مسلم ) .
ولقد جاء التحذير من تعاطي الربا أو التعامل به ، ولعن صاحبه وطرده من رحمة الله عز وجل وإبعاده عن مرضاته سبحانه وتعالى ، ففي حديث بن مسعود رضي الله عنه قال : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء ) ( رواه مسلم ) أي أنهم سواء في الإثم والمعصية ، والجزاء والعقاب ، قال صلى الله عليه وسلم : ( اجتنبوا السبع الموبقات ( آي المهلكات ) قالوا يارسول الله : وما هن ؟ قال : الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ) ( رواه الشيخان ) .
أيها المؤمنون عباد الله : عندما تنقلب الموازين ، وتنتكس الفطر ، وتتحطم القيم ، ويقع الإنسان في أوحال الذنب والكبيرة ، ويغوص في أعماق المعصية والرذيلة ، ويتلطخ بأوصاف قذرة قبيحة ، عند ذلك يصبح الإنسان في مصاف البهائم ، وتلحقه لومة اللائم ، ولكن العجيب والعجائب جمة قصة ذلك الساذج البسيط ، الذي فقد عقله ، وأسلمه لعدوه ، الشيطان وأعوانه ، فنأى بنفسه بعيداً عن التوحيد ، ورمى بها في مستنقعات الجهل وحب المال الحرام ، فلقد جاء شاب من أهل الغفلة والضياع ، إلى المسؤول يطلب منه استقطاعاً من راتبه لعملية ربوية محرمة مع أحد البنوك الربوية ، وعندما وجه إليه النصح والإرشاد ، والتخويف من أجل الترك والابتعاد ، مسنوداً بقول أفضل العباد صلى الله عليه وسلم الذي قال : ( الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه ) ، فبدل أن يقوم بشكر ذلك الناصح الأمين ، وحاملاً له هم الأخوة في الدين ، بل رد قائلاً : اعتبرني ناكحاً للأسرة كلها ، إنه والله الخسران المبين ، والران الذي غطى القلوب ، وأعمى الأبصار ، إن الزنا مع الغريبة عظيم ، فكيف بذات الرحم ؟ لقد انساق وراء الأوهام ، واستسلم للأباطيل وتفاهة الأحلام ، فهو كالفراش يتهافت على النار ، إنه أمر مذهل ، وجواب مخجل ، إن من الحيوان الذي لا يفكر ، ولا يمكن أن يقدر ، من لا يمكن أن يقع على أمه ، فذكر الدميري في حياة الحيوان الكبرى وفي طيات كلامه عن الجمل ، فقال : لا يمكن للجمل أن ينزو على أمه ، فكان رجل في سالف الدهر ستر ناقة بثوب ثم أرسل ولدها عليها فلما عرف أنها أمه قتل نفسه ، فسبحان الله العظيم ، جمل أعقل من رجل ، وحيوان أفهم من إنسان ، فهذا إنسان لا يبالي بأن ينكح أسرته من أجل حفنة من مال حرام ، وذاك حيوان يقتل نفسه لأنه وقع على أمه ، فشتان ما بين الإثنين ، فاحذروا عباد الله من عاقبة الربا وأكله ، فهو الطريق إلى النار ، وبئس القرار .
معاشر المسلمين : إن الربا وإن كثر فهو إلى قِلّ وأن بركته ممحوقة يقول الله تعالى ( يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم ) . وقال صلى الله عليه وسلم : [ الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل ] ( رواه الحاكم وهو في صحيح الجامع ) ، فآكل الربا كافر كفر نعمة ، وإن استحله فهو كافر خارج من الدين ومارق منه ، يستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتداً والعياذ بالله ، فخير الله إليه نازل وشره إلى الله صاعد قال تعالى : { أفبنعمة الله يجحدون } وقال تعالى : { يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون } فآكل الربا لا يرضى بما قسم الله له من الحلال ، ولا يكتفي بما شرع له من الكسب المباح ، بل يسعى في أكل الأموال بالباطل بأنواع المكاسب الخبيثة ، وأنواع العقود الخسيسة ، فهو جحود لما عليه من النعمة ، ظلوم آثم بأكل الحرام ، ولذلك وصفه الله عز وجل بأنه كفار أثيم ، وكفران النعمة سبب لتغير الحال وكثرة المرض والجنون والموت وسبب لزعزعة الأمن وعدم الاستقرار قال تعالى : { وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون } .
أيها المؤمنون : يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام كما ورد ذلك في الحديث وذلك لأن الأغنياء يحاسبون على أموالهم من أين اكتسبوها وفيما أنفقوها وهذا في المال الحلال فما ظنك بذي المال الحرام . ولما سئل عيسى عليه السلام عن المال قال : [ لا خير فيه ، قيل : ولم يا نبي الله ، قال : لأنه يُجمع من غير حِل ، قيل : فإن جُمع من حِل ، قال : لا يُؤدي حقه ، قيل : فإن أدى حقه قال : لا يسلم صاحبه من الكبر والخُيلاء ، قيل : فإن سلِم ، قال : يُشغله عن ذكر الله ، قيل : فإن لم يُشغله ، قال : يُطيل عليه الحساب يوم القيامة ] ، فتأملوا رحمكم الله هذه العقبات الخمس وقليل من يتجاوزها سالماً .
فوالله إن ذلك هو المحق والنقصان ، والذل والهوان ، والمبين من الخسران .
فمن أستحل الربا وأصر على أكله وتعاطيه واستمر على ذلك أدى به إلى الكفر وسوء الخاتمه والعياذ بالله ، ففي التعامل بالربا مخالفة لأمر الله تعالى وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم قال تعالى { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب اليم } .
وفيه معصية لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم وتعد لحدود الله تبارك وتعالى وارتكاب لمحارمه وقد قال الله تعالى : { ومن يعص الله ورسوله ويتق حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين } .
فتأمل أيها المسلم ما ذكره الله عز وجل في الآيات من وعيد لآكل الربا وعظيم ما يترتب على فعل ذلك المنكر العظيم من العقوبات والدخول في النيران فيا من تتعامل بالربا تب إلى المولى جل وعلا قبل أن يحل بساحتك هادم اللذات ومفرق الجماعات ثم تقول { ياليتني لم أوت كتابيه ياليتها كانت القاضية ما أغني عني ماليه هلك عني سلطانية } فيقال لك : { خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فأسلكوه } .
فاحذر من عاقبة التعامل بالربا وأقبل على الله بتوبة نصوح تجب ما قبلها من الذنوب والعصيان .
أيها المسلمون : لا بد لكل عاقل فطن ، أن يعرف أن التعامل بالربا دسيسة ومكيدة من دسائس أعداء الله اليهود ـ قاتلهم الله ـ ومكيدة من مكائدهم العظيمة ـ لا كثرهم الله ـ ليبعدوا الناس عن دينهم ، فقد باءوا بالغضب واللعن من الله تعالى لأكلهم الربا ، واستحقوا الخزي والندامة ، ومسخوا خنازير وقردة ، يقول الله تعالى : {
إن العالم بأسره يئن من وطأة اليهودية الحاقدة ، ويدعوا باللعنة والمقت لأهلها والقائمين عليها .